حجت أعرابية ومعها ابن لها فأصيبت به ، فلما دفن قامت على قبره وهي وجعة فقالت:
والله يا بني لقد غذوتك رضيعاً ، وفقدتك ، سريعاً ، وكأنه لم يكن بين الحالين مدةُ ألتذ بعيشك فيها ، فأصبحت بعد النظارة والغضارة ، ورونق الحياة ، والتنسم في طيب روائحها ، تحت أطباق الثرى جسداً هامداً ، ورفاتاً سحقياً، وصعيداً جرزا .
أي بني ، لقد سحبت الدنيا عليك أذيال الفنا ، وأسكنتك دار البلى ، ورمتني بعدك نكبة الردى .
أي بني ، لقد أسفر لي عن وجه الدنيا صباح داج ظلامه ، ثم أي رب ، منك العدل ، ومن خلقك الجور ، وهبته لي قرة عين ، فلم تمتعني به كثيراً ، بل سلبتنيه وشيكاً ، ثم أمرتني بالصبر ، ووعدتني عليه الأجر ، فصدقت وعدك ، ورضيت قضاءك ، فرحم الله من ترحم على من استودعته الردم ، ووسدته الثرى ، اللهم ارحم غربته ، وآنس وحشته .
فلما أرادت الرجوع إلى أهله وقفت على قبره فقالت :
أي بني ، إني قد تزودت لسفري ، فليت شعري ، ما زادك لبعد طريقك ، ويوم معادك ! اللهم إني أسألك له الرضا برضاي عنه ، ثم قالت:
استودعتك من استودعنيك في أحشائي جنيناً، واثكل الوالدات ! ما أمض حرارة قلوبهن ! واقلق مضاجعهن ، وأطول ليلهن ، وأقصر نهارهن ، وأقل أنسهن ، وأشد وحشتهن ، وأبعدهن من السرور ، وأقربهن من الأحزان !
فلم تزل تقول هذا ونحوه ، حتى أبكت كل من سمعها ، وحمدت الله عز وجل ، واسترجعت.
القصة من كتاب … (( كيف تصبح فصيح اللسان ؟ )) أ/ محمد المستغانمي